رؤى نقدية
الشعر نكد ... بابه الشر.
ذ. رشيد سكري
نستطيع ، الآن ، أن نجزم أن للشعر المغربي الحديث مؤسسة تدافع عنه . و
هذه المؤسسة لا تفتح أبوابها للعابرين، إلا إذا توفرت فيهم مجموعة من الشروط ، بما
هي قوانين ينتظم عندها الجميع. إن الانشراح الذي يعم صدورنا ؛هو عندما شرعت
جامعاتنا بتدريس الشعر المغربي الحديث للطلبة و الطلبة الباحثين. و هو اعتراف،
ضمني ، بالمكانة المرموقة التي يستحقها الشعر المغربي ضمن خارطة الشعر العربي .و
سعيا إلى مزيد من التوضيح ، نستطيع أن نقول : إن الشعر المغربي لا زال فتيا
بالمقارنة مع ما قطعه الشعر العربي في المشرق . و لا يمكن تفسير ذلك إلا في إطار
البنية التي تتحكم في مؤسسات الإنتاج الثقافي المغربي، والكيفية التي تشتغل بها
هذه المؤسسات. التي يعترض سبيلها مجموعة
من العراقيل ، بما هي حواجز تحد من انتشار الشعر المغربي على أوسع نطاق.
وإذا
كان الشعر يصدح من مناطق غامضة من نفسية
الشاعر ، كما يقول أحمد العمراوي، فإن النفس، هي الأخرى، تبحث عن فسحة
الحرية تهتك بها غسق الغموض . فالشاعر ،
إذن ،يتحرر في وضع متحرر . إن للشعر المغربي الحديث بنية تؤطره، قريبة من أن تكون
سياجا نظريا ضخما . و به يشهد الشعر المغربي الحديث تطورات سريعة ومتسارعة ، تخلق منه كيانا جديدا و متجددا .
فالغموض ، كما يقول أدو نيس ، ظاهرة صحية ليس في الشعر المغربي أو العربي ،
بل حتى في الشعر العالمي. فالغموض ، إذن، يستطيع أن يتجاوز المصرح به إلى غير
المصرح به . و دليلنا في ذلك اللغة الشعرية التي تساعد ، المبدعين و الباحثين ،
على الخلق و ابتكار أساليب جديدة ، بما هي تقنيات أدبية حسب تودوروف (1). و
بالعودة إلى الحرية أعني بها أن الدراسات في الشعر المغربي الحديث يجب أن تكون
مفتوحة على المطلق الأدبي ؛بمعنى أن مجال الدراسات الشعرية مجال واسع يعكس رؤية الدارس
للعالم. و فيها يتم انعكاس الذات على
الخطاب الشعري . وعندما تنعدم هذه الخصوصية ، تصبح المقاربة مبتورة تترجم فعل
السيطرة و الهيمنة . وتخلق من نفسها ولنفسها إطارا مرجعيا يستحيل تجاوزه ،بما
هي خطوط حمراء تنذر بالشؤم الإبداعي . إن
من حقنا جميعا ، كمهتمين بشعرنا المغربي الحديث ، أن تكون إلى جانبنا هذه الحرية
التي نبحث عنها.و بها يتسامى الفعل الإبداعي إلى الصفاء و الإختلاف في الآن نفسه.
إن تاريخ الشعر المغربي
الحديث تاريخ الصراعات ، بما هو تاريخ
صراع حول هذه الحرية نفسها التي تترجم الحقيقة ذاتها. و قد تعلمنا ، في السياق
نفسه ،كيف نشأ الشعر المغربي الحديث ، انطلاقا من أيديولوجيات ذاهبة نحو المحو و
القتل . بمعنى أن ثقافة القتل موجودة و تتناسل، طبيعيا ، بعيدة عن ذاتية الشاعر
بما هو يمارسها بدون وعي . فأصبحت ـ أي ثقافة الموت ـ خصيصة تلازم زمن ولادة
القصيدة المغربية الحديثة. فلا يبزغ فجر
شاعر ، إلا بعد احترافه فعل القتل والخديعة و المخاتلة . يقتل من قبله و ينتظر أن
يمارس عليه فعل القتل و هكذا . فتصبح القصيدة تعيش بين زمنين منفصلين ؛ قبل القتل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تزيفطان تودوروف ، الأدب في خطر ،
ترجمة عبد الكبير الشرقاوي ، دار توبقال للنشر ،ص. 6
وبعده. فالشعر المغربي الحديث ، بعيدا عن أن يكون لحظة تأمل عابرة
،تراوح زمنه الإبداعي انطلاقا من خمسينيات القرن الماضي. كما شعراء الخمسينيات ،
كما شعراء الستينيات والسبعينيات زاولوا واحترفوا فعل القتل. ومنهم من يمارسه ، مع الأسف
،حتى هذه اللحظة.
إن مساءلة الحداثة الشعرية
الأوروبية، مثلا، تستوجب الإنصات و الإيمان بالاختلاف . بما هو عمل يتجذر في
الثقافة الغربية . فهل من الضروري أن يخلف هولدرلين، أو وملارميه أو
بودلير زوبعات عدائية حتى يكونوا في الواجهة؟ أم نفسية الشاعر أكبر من
أن تكون مشعلة الحرائق لا أقل و لا أكثر .
ففي كتاب "الأدب في خطر" لتودوروف يوضح الكيفية التي يشتغل بها
القائمون بالشأن الثقافي الغربي، حيث يسعون إلى خلق الانسجام و التوافق بين
التصورات النظرية و المرجعية. و من ثم ينفتح الأدب ليس على المؤسسات الثقافية
فحسب، بل على الإنتماءات العرقية للشاعر أو الأديب. و الهدف الأسمى ، من ذلك، هو
توفير جو ثقافي حقيقي و منفتح على مختلف التيارات الثقافية و الفلسفية التي تجتاح
أوروبا. فلولا لم يجد تودوروف الأرضية المناسبة للإبداع في فرنسا ، لما
تمكن من أن يأخذ المكانة المتميزة ضمن خارطة الأدب العالمي الآن. و بالتالي يؤسس
لنظريته الجديدة في الأدب. إن المودة التي نشأت بين تودوروف و جيرار
جونيت و رولان بارت الشربورغوري سمحت باكتشاف الأدب الشكلاني ، والتعرف عليه كجزء من التراث الإنساني. بعيدون
كل البعد عن أن تفرقهم الحزازات العرقية و المذهبية و اللغوية ، التي تخل بالأخلاق
الأدبية . و من جانبهم قد استطاعوا أن يطوروا مناهج حديثة خاصة بدراسة هذا الأدب ـ
أي الشكلاني ـ الذين تعرفوا عليه عن طريق تزفتان.
إن المسألة الحداثية لا
تستوجب النظر في الإبداع نظرة العدم و القتل و النقصان والمحو. بل يجب على هذه
النظرة أن تؤسس الاختلاف، و تساهم في إغناء مشهدنا الثقافي.و تصبح، هنا ، الذاتية و الرؤية الجديدة امتدادا شرعيا للنص ،
بما هي ـ أي الرؤية ـ تعكس وجهه المتعدد. فأي دراسة للمتن الشعري المغربي الحديث
تستبد به هذه الحقيقة ، و تجعل لنفسها إطارا صفيقا يصعب تجاوزها ، أنا و من بعدي
الطوفان . ولا ننكر، من موقعنا هذا ، الفضل الذي ساهم به شعراؤنا في بلورة النظرة
الشعرية لواقعنا الثقافي ، و من ثم نرفض فكرة "قتل الأب". و إن عشنا هذه
الأحداث ، مع الأسف و بمرارة ،على صفحات المجلات و الجرائد و المواقع الالكترونية. فانكشف أمامنا واقع مختل ، لا زال يبحث عن
توازن مفتقد. و الحالة هته تؤكد ما قاله سليمان فياض في إحدى حواراته "
إن أدباءنا ،في العالم العربي الكبير، وجدوا بمحض الصدفة. و في العدم يذهب أغلبهم"
. كما الشاعر ، كما الأديب ، كما الفنان يظل الإبداع يبحث عن مستقر له في النفس
الإنسانية ، بما هي مركز إشعاعي يستمر في التوالد والانفتاح على التجارب الإبداعية
الأخرى.
في الأدب الفرنسي خاض
الرومانسيون حربا ضروسا على كل أشكال الكلاسيكية القديمة. كما الجمال، كما الحب
عنصران شعريان خرج بهما منظر الشعرية الفرنسي فيكتور هيكو ليقول للعالم
؛انتهى زمن الكلاسيكية .و في جو مشحون بالغضب و الأسى كانت بداية السقوط. و من دون
تجريح أو قتل أو محو استطاعت الرومانسية الفرنسية أن تحفظ للكلاسيكية هيبتها
وسلطتها و مكانتها في وجدان الشعب الفرنسي ؛ لأنها جزء من ذاكرتهم الثقافية يحفظها
لهم التاريخ . و بغض النظر في تلك الأحداث التي سيجت المشهد الثقافي الفرنسي
العام، ما على بودلير إلا أن يثمن " جريمة في الكاتدرائية " من
خلال ديوانه الذائع الصيت " أزهار الشر " .كما راسين كما فيكتور
كما بودلير يتطلعون ، جميعا ، إلى غد واعد و غني يعج بالاختلاف ، بما هو
أساس النجاح و تحققه في الآن نفسه.
لقد
استطاعت ،إلى حد ما ، بعض الدراسات عن الشعر المغربي الحديث، أن تمارس فعل الخديعة
والمخاتلة ؛ بمعنى أنه قد وقع الاختيار ، في الدراسة ، على زمرة من الشعراء وإقصاء آخرين من المشهد الثقافي المغربي . إما
لأن زمنهم الإبداعي قد ولى ، أو لأنهم احترفوا إشعال الحرائق ، و لازالوا يتربعون
، صوريا ،على كرسي الهرم ، بما هو كرسي يساعدهم على الحضور في منتديات خاصة بالشعر داخل المغرب و خارجه .و
يراهنون ، بهذا المعنى على هذا السفر المكوكي بقوة ، بعدما اعدموا ثقافيا ووئدوا
حضاريا. وكنا ، دائما، ننتظر رد الفعل والانتقام، و ها هو الآن يصاغ من داخل
مؤسسات الجامعة المغربية وباسم الحداثة ؛ بحياكة مسرحية اسمها " الموسوعة
الأدبية"؛ لتعمق الجرح. وبالتالي إلى القتل والإقصاء والتهميش ذاهبون.
إننا بعيدون عن أن نفهم ما معنى الإبداع الحقيقي ،وأي صدر أو بالأحرى
أي قلب يحترف الإبداع ؛قصة أو رواية أو حتى قصيدة إذا كان منبت الإبداع يعوم في
الظلام، لا يرى إلا ظله هو دون سواه ، أو
كما تسميه القاصة المغربية ربيعة ريحان : نبتة الليل . و هل نكون حينها
أمام إبداع حقيقي فعلا؟ الإبداع تصاحبه إشراقة فجر و حرية وأمل يضئ الكون والطبيعة
، و يساعد الشاعر على أن يحيى زمنا آخر غير زمنه الحقيقي.
إن فتح ملف " الموسوعة الأدبية " في
الجامعة المغربية ، أقرب من أن تكون تصفية حسابات عالقة سجلها القتل في مذكراته. و
أبعد عن أن تكون وصاية تخدم الشأن الثقافي للبلاد. إذن، نحن أمام معسكرين متناحرين
؛معسكر يمارس القتل من داخل الجامعة ومعسكر يتفنن في الوأد و يمارسه باحترافية
بالغة من خارجها .و يحتفى ، من موقعهم المريح، برومانسية السقوط و الموت البطيء ، الذي
إليه ينزعون . ف" الموسوعة الأدبية " هي تراث فكري و ثقافي وملك للعامة
؛ لأنها وثيقة تاريخية تحفظ الهوية الفكرية و الثقافية للبلاد. لذلك فمن المفروض
أن لن يأتيها الباطل من أمامها أو من خلفها، إلا إذا استقرضنا نية القتل من خارج
ذواتنا التي تزعم ،بنفسها و لنفسها ،أنها تتسامى إلى الشاعرية؛ وتلبس لبوس الذات
السوية. و ما هي في الحقيقة إلا ذات فقدت توازنها ، وعامت في النرجسية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق