السبت، 18 فبراير 2017

هل الأدب في خطر؟

                                هل الأدب في خطر؟
                                                                            ذ. رشيد سكري  
  
        لمساءلة الأدب ، لابد أن نعود إلى التاريخ الأدبي ؛ حيث الحتمية التاريخية هي التي تغلف الدرس الأدبي ، وتكشف عنه وعن أهم إبدالاته وجدواه . فالمناهج التي عولج بها الأدب لا تقوم لها قائمة من دون التاريخ الأدبي . وسعيا لملامسة مدى أهمية المناهج الحديثة ،التي  تناولت السيرورة الأدبية ، سنجد حنا الفاخوري في كتابه " تاريخ الأدب العربي" ؛ العمل الذي أغنى المكتبة العربية بثوابت و أصول معرفية حقيقية ، انطلاقا من العصر الجاهلي ، فالأموي ، مرورا بالعباسي في الشرق، و إلى حدود عصر النهضة مع البارودي و جرجي زيدان ... أمن الممكن أن نطرح سؤالا عن جدوى هذا العمل ؟ فثقافة السؤال ذاهبة نحو تأصيل الأصول، فمن دون الهوية الثقافية،كيف سيصير الأدب العربي ؟
      ثمة ظواهر أدبية ، في تاريخ الأدب العربي، تشي قدرة الشاعر الجاهلي على أن يكون مطبوعا بالشعر ، فهو لا يجيل فيه النظر ، بل يخرج ـ  أي الشعر ـ منساقا وراء سليقة لغوية موسيقية . تماشيا و السيرورة القرآنية، بما هي قطعت الصلة بالحياة الوثنية ، التي كان يعيشها الشاعر الجاهلي ، فالسدى النغمي الذي يخيط لحمة كلام الوحي، نابع من بلاغة أرقت البلاغيين . ومنه لا ضير أن نقول : إن الوحي تحدى موسيقية الأذن الجاهلية ؛ محققا إبدالا خطيرا في البناء الثقافي للإنسان العربي. فمقصدية الأدب أن تجعل الانسان في بؤرة الحياة ، بما هو يعيش مدها و جزرها.
     فالأدب سواء كان أمويا أو عباسيا أو أندلسيا أو حتى غربيا ، لن يفارق هذه الحياة التي اقتنع بها هذا الأديب أو تعلق بها هذا الشاعر. فعندما نعشق الحياة نذهب إلى الأدب . خطان متوازيان . ففي صلب الأدب توجد بذرة الحياة ، التي ينشدها الشاعر أو الأديب. ففي العصر الأموي ، مثلا ، تعلق عمر بن أبي ربيعة بالغزل ؛ فمن رحم هذا الأخير انبثق تشبثه بالحياة ؛ فانفتح شعره على خبايا و أسرار حياة المرأة الحجازية . أما العصر العباسي، يشكل أبو نواس فارسا للخمريات . و باعث التجديد في الشعر العربي. انفتح شعره على وصف الخمرة ، بما هي احتفاء بالمجون العربي ، و احتفاء بالرفض أيضا .
فأيان لنا أن نعيش من دون أدب؟
     أ يستطيع المرء أن يمر يوم واحد من حياته، دون حكي أو وصف أو حوار؟ فعند إيفور ريتشاردز الفيلسوف الانجليزي في كتابه  "معنى المعنى" يقول : إننا نحيا بالأدب . إن مساءلة الحداثة الشعرية الأوروبية، مثلا، تستوجب الإنصات والإيمان بالاختلاف ، حيث إنه من صميم الدور الذي يشغله الأدب حاليا . ففي كتاب " الأدب في خطر" لتزفتان تودوروف يوضح الكيفية التي يشتغل بها القائمون بالشأن الثقافي الغربي . و من ثم ينفتح الأدب ليس على المؤسسات الثقافية فحسب، بل على الإنتماءات العرقية للشاعر أو الأديب. و الهدف الأسمى ، من ذلك، هو توفير جو ثقافي حقيقي و منفتح على مختلف التيارات الثقافية و الفلسفية التي تجتاح أوروبا. فلولا لم يجد تودوروف الأرضية المناسبة للإبداع في فرنسا ، لما تمكن من أن يأخذ المكانة المتميزة ضمن خارطة الأدب العالمي اليوم. و بالتالي يؤسس لنظريته الجديدة في الأدب. إن المودة التي نشأت بين تودوروف وجيرار جونيت  ورولان بارت الشربورغوي سمحت باكتشاف الأدب الشكلاني ، والتعرف عليه كجزء من التراث الإنساني. بعيدون كل البعد عن أن تفرقهم الحزازات العرقية و المذهبية و اللغوية ، التي تخل بالأخلاق الأدبية . و من جانبهم قد استطاعوا أن يطوروا مناهج حديثة خاصة بدراسة هذا الأدب ـ أي الشكلاني ـ الذين تعرفوا عليه عن طريق تزفتان. فالأدب ، إذن ، يذيب الإحساس بالاختلاف، بما هو أرسى بؤرا حمئة عبر العالم اليوم.
   إن حب الأدب لا يكمن في ربط أواصر و جسورا بين ظواهر واقعية في الماضي والحاضر والمستقبل ، بقدر ما يشيد بهذا التعالق الذي يمنح إيصال أصوات المهمشين  والمنبوذين داخل المجتمعات الانسانية ؛ فلا فيء يحتضنهم سوى دوحة الأدب .     



الشعر نكد ... بابه الشر

رؤى نقدية
                                                 الشعر نكد ... بابه الشر.
                                                                                                   ذ. رشيد سكري   
    نستطيع ، الآن ، أن نجزم أن للشعر المغربي الحديث مؤسسة تدافع عنه . و هذه المؤسسة لا تفتح أبوابها للعابرين، إلا إذا توفرت فيهم مجموعة من الشروط ، بما هي قوانين ينتظم عندها الجميع. إن الانشراح الذي يعم صدورنا ؛هو عندما شرعت جامعاتنا بتدريس الشعر المغربي الحديث للطلبة و الطلبة الباحثين. و هو اعتراف، ضمني ، بالمكانة المرموقة التي يستحقها الشعر المغربي ضمن خارطة الشعر العربي .و سعيا إلى مزيد من التوضيح ، نستطيع أن نقول : إن الشعر المغربي لا زال فتيا بالمقارنة مع ما قطعه الشعر العربي في المشرق . و لا يمكن تفسير ذلك إلا في إطار البنية التي تتحكم في مؤسسات الإنتاج الثقافي المغربي، والكيفية التي تشتغل بها هذه المؤسسات.  التي يعترض سبيلها مجموعة من العراقيل ، بما هي حواجز تحد من انتشار الشعر المغربي على أوسع نطاق.
     وإذا كان الشعر يصدح من  مناطق غامضة من نفسية الشاعر ، كما يقول أحمد العمراوي، فإن النفس، هي الأخرى، تبحث عن فسحة الحرية تهتك بها غسق الغموض . فالشاعر  ، إذن ،يتحرر في وضع متحرر . إن للشعر المغربي الحديث بنية تؤطره، قريبة من أن تكون سياجا نظريا ضخما . و به يشهد الشعر المغربي الحديث تطورات سريعة  ومتسارعة ، تخلق منه كيانا جديدا و متجددا . فالغموض ، كما يقول أدو نيس ، ظاهرة صحية ليس في الشعر المغربي أو العربي ، بل حتى في الشعر العالمي. فالغموض ، إذن، يستطيع أن يتجاوز المصرح به إلى غير المصرح به . و دليلنا في ذلك اللغة الشعرية التي تساعد ، المبدعين و الباحثين ، على الخلق و ابتكار أساليب جديدة ، بما هي تقنيات أدبية حسب تودوروف (1). و بالعودة إلى الحرية أعني بها أن الدراسات في الشعر المغربي الحديث يجب أن تكون مفتوحة على المطلق الأدبي ؛بمعنى أن مجال الدراسات الشعرية مجال واسع يعكس رؤية الدارس للعالم.  و فيها يتم انعكاس الذات على الخطاب الشعري . وعندما تنعدم هذه الخصوصية ، تصبح المقاربة مبتورة تترجم فعل السيطرة و الهيمنة . وتخلق من نفسها ولنفسها إطارا مرجعيا يستحيل تجاوزه ،بما هي  خطوط حمراء تنذر بالشؤم الإبداعي . إن من حقنا جميعا ، كمهتمين بشعرنا المغربي الحديث ، أن تكون إلى جانبنا هذه الحرية التي نبحث عنها.و بها يتسامى الفعل الإبداعي إلى الصفاء و الإختلاف في الآن نفسه.  
     إن تاريخ الشعر المغربي الحديث تاريخ الصراعات  ، بما هو تاريخ صراع حول هذه الحرية نفسها التي تترجم الحقيقة ذاتها. و قد تعلمنا ، في السياق نفسه ،كيف نشأ الشعر المغربي الحديث ، انطلاقا من أيديولوجيات ذاهبة نحو المحو و القتل . بمعنى أن ثقافة القتل موجودة و تتناسل، طبيعيا ، بعيدة عن ذاتية الشاعر بما هو يمارسها بدون وعي . فأصبحت ـ أي ثقافة الموت ـ خصيصة تلازم زمن ولادة القصيدة المغربية الحديثة.  فلا يبزغ فجر شاعر ، إلا بعد احترافه فعل القتل والخديعة و المخاتلة . يقتل من قبله و ينتظر أن يمارس عليه فعل القتل و هكذا . فتصبح القصيدة تعيش بين زمنين منفصلين ؛ قبل القتل  
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)    تزيفطان تودوروف ، الأدب في خطر ، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي ، دار توبقال للنشر ،ص. 6

وبعده. فالشعر المغربي الحديث ، بعيدا عن أن يكون لحظة تأمل عابرة ،تراوح زمنه الإبداعي انطلاقا من خمسينيات القرن الماضي. كما شعراء الخمسينيات ، كما شعراء الستينيات  والسبعينيات زاولوا  واحترفوا فعل القتل. ومنهم من يمارسه ، مع الأسف ،حتى هذه اللحظة.

  إن مساءلة الحداثة الشعرية الأوروبية، مثلا، تستوجب الإنصات و الإيمان بالاختلاف . بما هو عمل يتجذر في الثقافة الغربية . فهل من الضروري أن يخلف هولدرلين، أو وملارميه أو بودلير زوبعات عدائية حتى يكونوا في الواجهة؟ أم نفسية الشاعر أكبر من أن  تكون مشعلة الحرائق لا أقل و لا أكثر . ففي كتاب "الأدب في خطر" لتودوروف يوضح الكيفية التي يشتغل بها القائمون بالشأن الثقافي الغربي، حيث يسعون إلى خلق الانسجام و التوافق بين التصورات النظرية و المرجعية. و من ثم ينفتح الأدب ليس على المؤسسات الثقافية فحسب، بل على الإنتماءات العرقية للشاعر أو الأديب. و الهدف الأسمى ، من ذلك، هو توفير جو ثقافي حقيقي و منفتح على مختلف التيارات الثقافية و الفلسفية التي تجتاح أوروبا. فلولا لم يجد تودوروف الأرضية المناسبة للإبداع في فرنسا ، لما تمكن من أن يأخذ المكانة المتميزة ضمن خارطة الأدب العالمي الآن. و بالتالي يؤسس لنظريته الجديدة في الأدب. إن المودة التي نشأت بين تودوروف و جيرار جونيت و رولان بارت الشربورغوري سمحت باكتشاف الأدب الشكلاني ،  والتعرف عليه كجزء من التراث الإنساني. بعيدون كل البعد عن أن تفرقهم الحزازات العرقية و المذهبية و اللغوية ، التي تخل بالأخلاق الأدبية . و من جانبهم قد استطاعوا أن يطوروا مناهج حديثة خاصة بدراسة هذا الأدب ـ أي الشكلاني ـ الذين تعرفوا عليه عن طريق تزفتان.

  إن المسألة الحداثية لا تستوجب النظر في الإبداع نظرة العدم و القتل و النقصان والمحو. بل يجب على هذه النظرة أن تؤسس الاختلاف، و تساهم في إغناء مشهدنا الثقافي.و تصبح، هنا ،  الذاتية و الرؤية الجديدة امتدادا شرعيا للنص ، بما هي ـ أي الرؤية ـ تعكس وجهه المتعدد. فأي دراسة للمتن الشعري المغربي الحديث تستبد به هذه الحقيقة ، و تجعل لنفسها إطارا صفيقا يصعب تجاوزها ، أنا و من بعدي الطوفان . ولا ننكر، من موقعنا هذا ، الفضل الذي ساهم به شعراؤنا في بلورة النظرة الشعرية لواقعنا الثقافي ، و من ثم نرفض فكرة "قتل الأب". و إن عشنا هذه الأحداث ، مع الأسف و بمرارة ،على صفحات المجلات و الجرائد و المواقع الالكترونية.  فانكشف أمامنا واقع مختل ، لا زال يبحث عن توازن مفتقد. و الحالة هته تؤكد ما قاله سليمان فياض في إحدى حواراته " إن أدباءنا ،في العالم العربي الكبير، وجدوا بمحض الصدفة. و في العدم يذهب أغلبهم" . كما الشاعر ، كما الأديب ، كما الفنان يظل الإبداع يبحث عن مستقر له في النفس الإنسانية ، بما هي مركز إشعاعي يستمر في التوالد والانفتاح على التجارب الإبداعية الأخرى.

  في الأدب الفرنسي خاض الرومانسيون حربا ضروسا على كل أشكال الكلاسيكية القديمة. كما الجمال، كما الحب عنصران شعريان خرج بهما منظر الشعرية الفرنسي فيكتور هيكو ليقول للعالم ؛انتهى زمن الكلاسيكية .و في جو مشحون بالغضب و الأسى كانت بداية السقوط. و من دون تجريح أو قتل أو محو استطاعت الرومانسية الفرنسية أن تحفظ للكلاسيكية هيبتها وسلطتها و مكانتها في وجدان الشعب الفرنسي ؛ لأنها جزء من ذاكرتهم الثقافية يحفظها لهم التاريخ . و بغض النظر في تلك الأحداث التي سيجت المشهد الثقافي الفرنسي العام، ما على بودلير إلا أن يثمن " جريمة في الكاتدرائية " من خلال ديوانه الذائع الصيت " أزهار الشر " .كما راسين كما فيكتور كما بودلير يتطلعون ، جميعا ، إلى غد واعد و غني يعج بالاختلاف ، بما هو أساس النجاح و تحققه في الآن نفسه.

  لقد استطاعت ،إلى حد ما ، بعض الدراسات عن الشعر المغربي الحديث، أن تمارس فعل الخديعة والمخاتلة ؛ بمعنى أنه قد وقع الاختيار ، في الدراسة ، على زمرة من الشعراء  وإقصاء آخرين من المشهد الثقافي المغربي . إما لأن زمنهم الإبداعي قد ولى ، أو لأنهم احترفوا إشعال الحرائق ، و لازالوا يتربعون ، صوريا ،على كرسي الهرم ، بما هو كرسي يساعدهم على الحضور  في منتديات خاصة بالشعر داخل المغرب و خارجه .و يراهنون ، بهذا المعنى على هذا السفر المكوكي بقوة ، بعدما اعدموا ثقافيا ووئدوا حضاريا. وكنا ، دائما، ننتظر رد الفعل والانتقام، و ها هو الآن يصاغ من داخل مؤسسات الجامعة المغربية وباسم الحداثة ؛ بحياكة مسرحية اسمها " الموسوعة الأدبية"؛ لتعمق الجرح. وبالتالي إلى القتل والإقصاء والتهميش ذاهبون.
إننا بعيدون عن أن نفهم ما معنى الإبداع الحقيقي ،وأي صدر أو بالأحرى أي قلب يحترف الإبداع ؛قصة أو رواية أو حتى قصيدة إذا كان منبت الإبداع يعوم في الظلام،  لا يرى إلا ظله هو دون سواه ، أو كما تسميه القاصة المغربية ربيعة ريحان : نبتة الليل . و هل نكون حينها أمام إبداع حقيقي فعلا؟ الإبداع تصاحبه إشراقة فجر و حرية وأمل يضئ الكون والطبيعة ، و يساعد الشاعر على أن يحيى زمنا آخر غير زمنه الحقيقي.
   
     إن فتح ملف " الموسوعة الأدبية " في الجامعة المغربية ، أقرب من أن تكون تصفية حسابات عالقة سجلها القتل في مذكراته. و أبعد عن أن تكون وصاية تخدم الشأن الثقافي للبلاد. إذن، نحن أمام معسكرين متناحرين ؛معسكر يمارس القتل من داخل الجامعة ومعسكر يتفنن في الوأد و يمارسه باحترافية بالغة من خارجها .و يحتفى ، من موقعهم المريح، برومانسية السقوط و الموت البطيء ، الذي إليه ينزعون . ف" الموسوعة الأدبية " هي تراث فكري و ثقافي وملك للعامة ؛ لأنها وثيقة تاريخية تحفظ الهوية الفكرية و الثقافية للبلاد. لذلك فمن المفروض أن لن يأتيها الباطل من أمامها أو من خلفها، إلا إذا استقرضنا نية القتل من خارج ذواتنا التي تزعم ،بنفسها و لنفسها ،أنها تتسامى إلى الشاعرية؛ وتلبس لبوس الذات السوية. و ما هي في الحقيقة إلا ذات فقدت توازنها ، وعامت في النرجسية.


أمي عائشة ... و ورقة من الأرياف

قصة قصيرة                  

               أمي عائشة ... و ورقة من الأرياف.               
                                ذ. رشيد سكري                                                                 

  من وراء الأحجار الطينية الملساء ، كانت عائشة تنظر إلى الساقية تسيل ماءا زلالا ... اقتربت من مجراها ... فأخذت تعبث بعصا ، ترسم دوائر تضيق على الطين المبلل.
 ينعش خرير ماء عين " بوتلمسيردين " نفسها المتضايق ... دلفت بحذر شديد ، تحت أشجار الدفلى المتشابكة الأغصان والأوراق تجر رجلها المعقوفة إلى الوراء ... وأخذت مكانها بالقرب من مجرى المياه ... رشفت منها رشفة عميقة ... استلذت برودة المكان ، وروائح التربة المبللة .  ذبال متساقط من أشجار الكلبتوس ، زاد من عطونته ... مدت رجلها اليسرى كابسة على ركبتها لتطرد منها الإعياء .
اقتحمها صوت ، تعرف رنين أوتاره...
ـ إلى أين أنت ذاهبة ، أمي عائشة؟
ودون أن ترفع بصرها  ، أجابت إلى المقبرة ...
ـ ذلك سيتطلب منك ...جهدا جهيدا، وأنت مهيضة. 
فأجابته ، وهي تشد على رأسها المشتعل شيبا بحزام من الصوف المفتول.
ـ بقيت وحيدة كما ولدت أول مرة ... زيارتي للمقبرة تذكرني بالفتوة المتوارية مع السنون.
مدت يدها اليسرى؛ ليستقيم عودها في الوقوف ... لكن احدوداب الظهر منعها من ذلك .

  بعض الصبايا يحملون قنينات فارغة على ظهور الدواب ، يملؤنها ماءا ذهابا وجيئة، ويتركون وراءهم لغطا و غبارا يتطاير نقعه ... تتبعهم أمي عائشة بالصياح ؛ لأن أهل المكان يتضايقون من شدة وقع الحوافر على الأديم . قطعت الممر الضيق وسط أشواك الصبار صاعدة إلى الربوة المترامية ، تنتهي بشريط أشجار الزيتون الأخضر ، فبدت المقبرة خلفها تبتلع مصائر العباد . كومة من التراب الأبيض ، المبلل بماء "بوتلمسيردين" ، تكفي لأتربة جثمان جديد ... جاهدت أمي عائشة الإعياء الذي شلها و كلها ؛ لتحضر مراسيم الدفن الجديدة ...
اقتربت ...
اقتربت ...
و غبش يعلو الرموش ... دامعة كما كانت ، هي العيون ، حتى احمرت الجفون . بفم أدرد مشقوق ، رفع الفقيه حميدان عقيرته بسورة الزلزلة ؛ فاقشعرت الأبدان... " إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها ..."  و صوته تحس به يشق عنان الربوة .  
 آه! آه!  تلك أيام خوال !
عندما حفرت أمي عائشة نصف الربوة لأناس عبروا من هذا المكان ... تحمل الأحجار الطينية من الأحراش على الأتان الشهباء ... وتسافر بها من أجل أن يحلو المقام الجديد ... تفرغ ماء عين بوتلمسيردين فتمزجه بالطين الأحمر والتبن المهشم الأصفر ؛ لتغلف به وحشية البيت القشيب .
دنت من الحشد لتقف على جلية الخبر، وصوت الفقيه يأتيها ، الآن ، صافيا ... وعذبا ...
سألت خيالا و ظلا يحجب عنها أشعة الشمس الصاهدة .
ـ من يكون الوافد الجديد؟
فأجابها :
ـ غريب الدوار ...
ـ سلام ، إذن ...
هل حلت كنزة من بلاد برا ؟
ـ لا أعرفها أمي عائشة ؟ فأسلمت لرياح شرقية مالحة ، سكنت خياشيمها.

  
 المقبرة بناء من أحجار امتزجت فيها اتربة بيضاء بأتربة حمراء أرجوانية، مشكلة لوحة زيتية . في وسطها شجرة كليبتوس فارعة ، تمنح الظل و الفيء للعابرين والراقدين على السواء. على مسافة معشوشبة بمختلف الأزهار ، التي اختلطت ألوانها ، وقفت أمي عائشة على حافة الغبش الذي يلف عيونها ، تنظر إلى القبور الواطئة ، وقد تهشمت حوافيها ،تتلمس سمتا إلى شواهد قبور محفورة على الأحجار الكلسية... علها تعثر على بقايا قبر حدوم.

حدوم المرأة التي أسطرت الوجود النسائي بالقرية... عندما وقفت في وجه القائد بوخنزيرة الغاصب رافضة أن تمنحه قوتا ، تعبت من أجله أياما و ليال...
صفعة واحدة على خدها الأيسر ، كانت كافية أن تشعل فتيل نار لم يهدأ أوارها ، فانتفضت القرية على صفيح ساخن  ، ضد هذا الاستغلال... و الحيف...
في المساء ، لفظت القرية من وجعها تجمعا غفيرا عند الحجرة الملساء ؛ مجلس ينشط كلما ضاقت القرية ضائقة.  ومن كل حدب و صوب... نساء  ورجال وشيوخ وأطفال تركوا المسيد ، و هم يحملون ألواحهم المصموغة بالكلام الرباني ... رافعين بأوداجهن الصغيرة
اللطيف...
اللطيف...
كانت أمي عائشة تتذكر ذلك ، كأنه حدث بالأمس. وسط الحشد تمرغت حدوم معفرة وجهها بروث البهائم و بقايا حليب شاة وحيدة القرن ... انتفضت كدجاجة مذبوحة... فتسارعت النساء لإيقاف نزيف هذا المشهد الدرامي الكئيب ... بللوها بالماء ... فتخشبت وتصلبت أطرافها ؛ فكانت شهيدة الحجرة الملساء.
 تتذكر أمي عائشة ، وقد استطابت الريح الشرقية المالحة في مناخيرها ، مبللة بها ريقها المتيبس، وهي تنظر إلى الحشد يذوب فرادى وزرافات بين الشعاب والممرات الضيقة.

         في المساء ، عادت أمي عائشة أدراجها ، ورجلها المعقوفة إلى الوراء تلامس وجع تراب مسحوق ، وقد وجدت الديكة الملونة الريش ملأت صحن الدار ، كما تملأ عليها حياتها الرتيبة .   

    

























































































































































































مدائن الحب

قصة قصيرة                        مدائن الحب    
                                                                            ذ. رشيد سكري
     قال مسز براون  لزوجته : إن الوسامة تضمحل مع ظهور هذا اللعين .
أجابته الزوجة ، وهي مستلقية على الأريكة : وما غرضك بالوسامة ، وقد شارفت الخمسين
سنة أيها الوغد ؟
الزوج ، وهو يتناول الجريدة اليومية ، ويلقي نظرة خاطفة على العناوين البارزة  . قال لي،
بالأمس، الطبيب : إن الميلانين يطرد فحامة الجينات الوراثية ، ويعرضك للبهدلة .
نظرته نظرة شزراء ، وقالت  : خذ موعدا مع طبيبة أحسن . فالطبيبات يفهمن في
الخلايا الجذعية أكثر من الأطباء .
اقترب مسز براون من الزوجة ، وظل واقفا بجانب الأريكة ، يصيخ السمع إلى طقطقات شفتيها المكتنزتين  . أحقا ما تقولينه يا زكية ؟ !
     في الصباح ، على غير عادته ، دلف الحمام ، ووقف أمام المرآة ؛  أشعل ضوء النيون الأبيض ، فهرع  يبحث عن هذه الجذور ، التي هجرها السواد . أخذ بلسم مواسترزين وعصره بعنف فوق رأسه ، حتى بدأت رائحته  تفوح خارج الحمام .
ـ ما هذه الرائحة يا مسز براون ؟ َبسّم الباب ، وخرج خلسة على أنامل أقدامه ، دون أن
يجيب زوجته .
وجد الممر الضيق في شارع النصر خاويا تماما من المارة ، إلا من عمال النظافة، وصدى هديرهم يتيه بين الأزقة والدروب .اقترب مسز براون من باب عمارة ذات طوابق،  وقرأ ،على لوحتها البرونزية المبثوثة في مدخلها ، مايلي :   د. ماري فونتين  أخصائية في التدليك بالزيوت الطبيعية ... و استئصال زوائد الشيخوخة الظالمة.
انشرحت أسارير وجهه العابس ... فأحس بهوى الشباب ينعش دواخله و يعاوده من جديد . وثب على الرصيف وثبا طفوليا ... عانق فوانيس الشارع في دورات راقصة ، كما يفعل هاري بوتر في " مدرسة الساحرات " ... إنه همس الجنون .
ـ  أجمل بعودة الانسان إلى مدائن الصباه ، حيث العبث و الفوضى! ... كان مسز براون خامس إخوته ، قضى طفولته بالقرب من شاطئ فوازييه ، حيث هدير أمواجه لم تفارقه مدة خمس عشرة سنة . هذا البحر الغوير علمه الصمود و التيه في الخلجان . يستطيع ، وبقوة اختراق عجيبة  ، أن يربط أواصر مع سياح أجانب  ؛  عاشقو الموج و البحر و الشمس  والرمال.
     شريط أحداث عاوده ، وهو ينتظر في طابور كبير من النساء الأنيقات ؛ الملتحفات في ألبسة الدانتلا الباهضة ، وروائح لبسيكولي الايطالية يعبق بها المكان . طلبت المرأة المبسامة خلف مكتبها الزجاجي المعتم ، لا يظهر منها سوى شعرها الكستنائي المنفوش ، أوراق اعتماد الزيارة لمسز براون ؛ فسجلت اسمه على الحاسوب. ومن ثم رافقته إلى قاعة الانتظار ؛ ممر رخامي و مرمري صاف كالحليب ، يعكس أضواء ليد قوية الإضاءة ، كاشفا نمشا يتقافز على بشرتها القمحية.
ـ تفضل بالجلوس ، سيدي.
ـ شكرا . آنستي .
ـ عندما يفتح هذا الباب ، مشيرة إليه بإصبعها ، سيكون معلنا عن دورك سيدي .
بينما كان مسز براون يتأمل الموناليزا ، ولوحات فان خوخ المشنوقة على جدارات القاعة الملساء . جلس بالقرب منه رجل عجوز ، رأسه مشتعل شيبا . أخذ ألبوما من الصور ؛ وبدأ يتفرس في صور تثرى يشم فيها عبق الشباب . بنصف دورة على الكرسي ، حمل العجوز من الحقيبة مرآة  وفرشاة و محلولا ذا لون أسود . فشرع في تخضيب  شعره  بالسواد. اقترب منه مسز براون في ذهول.
ـ عفوا سيدي ، ما هذا المحلول ؟                
ـ فأجابه  : إنه آخر قطار إلى مدائن ... الحب.
                                           


بديعة وبدر و آخرون ...

                                 بديعة وبدر و آخرون ...
                                                                                    ذ. رشيد سكري
1.
   يزحف الخريف على الأرصفة و الأفاريز...
ناشرا سحابات قطنية على هامات البيوت الواطئة ، مصابيح غافية و مويجات تلفظ آخر أنفاسها على الشاطئ المغبش . على إيقاع  الغنج و الدلال ، قطعا معا المساءات الندية ، حتى وصلا جسر العبور الآمن .     
قالت بديعة : يسعفني الكلام ، عندما نحتفي بهذا الامتداد الازرق.
نظر إليها بدر، ماسحا رذاذا رُضابيا على جبينها كحُبيبات زُمردية ، تتخاطفها الألوان. وقال :
 أنت شاعرة بالدَّواخل ، لا تراجع و لا رجوع .اِحفظي القوافي...فالزمن الشعري آت ، كالطوفان ... يقتلع الأغراس و يقيم الأعراس.
قالت بديعة : الجدب كل الجدب ... عندما تحتد الريح ، لن أنظر إلى الوراء. هاهي الشمس ترسل الوداع مع آخر نورس نخره الانتظار... ويبتلعها الازرق الكتوم.
طاف حولها متلمسا بكلتا يديه  بطنها ، الذي يزداد انتفاخا يوما عن يوم . قال لها ، وهو يجلس القرفصاء :
ـ متى سيرى النور هذا الجهمي ؟
أجابته ، و هي تهز نظرها إليه من تحت رموشها  الفحماء : بالأمس كنت أنا و ميسان عند الطبيب ، أجرى لي كل الفحوصات اللازمة ، فبدا الجنين و المشيمة في صحة جيدة ، قاس الأطراف و النخاع و حجم الدماغ أيضا .
تبسمت بديعة فظهرت أسنانها مرصّعة  بيضاء كالبرَد ، وقالت :
ـ انتهى ، إلى حين ، التاريخ الدموي إذن ...
قاطعها بدر واضعا راحة يديه على فمها .وقال :
ـ لا تقولي ، إنك لا تعرفين جنسه ؟!
أطبق السكون على المكان ، إلا من هدير مويجات حالمة تلهو كطفل ، و ترغو فوق أحجار الفيروز  البيضاء و الأرجوانية . أخذت واحدا فأرسلته بعيدا في الزحمة بين الظل و الماء.
فسح لها الطريق ، فنزلت كسيدة الضوء نحو الشاطئ الباردةِ رماله.
قالت بديعة : قرأت ، في بعض المجلات المتخصصة ، حديثا عن سلوكيات الأجنة في الأرحام ؛ تأخذ الأنثى في الجهم المنحى العرضي، وتبدو منكمشة على نفسها في طقوس الولادة  محافظة على جسدها  الذهبي ؛ وتظل ملتصقة الساقين. بينما المخلوق الذكري يأخذ المنحى الطولي، ويثور رافضا هذه العتمة، التي تصفده و تكبله... ويشرع في الركل  والرفس ... يتذوق مرارة الحياة ، بما هي صراع في صراع ... وفي هذا ينشدان أسطورة العيش الأبدي .  
رفعت بديعة فستان اللِيكْرا الأحمر بقماشه الناعم  ، ذو عروة وحيدة جهة الظهر ؛ فكشفت عن ساقيها  وبطنها. تحسس بدر بأذنه كل مناحي جسدها العاري السبط الأملس، و قال:
ـ إنني أسمع غيثك غيثك الميمون أصواتا ، تناديني من أعماق جسدك الغوير... أصوات ترسل عبر أثير السوائل ؛ التي تسبح فيها الحياة.
أسدل بدر ستار قماش اللَِيكْرا على الجسد الفارع ، وأخذها بين ذراعيه ، فبدت كعصفورة ضمها الخريف.
2.
   تذكرت بديعة ما قالته أمي طاما ، عندما لفت بطنها بخيط الفتيل الأبيض، و بقياسات جدولة و تمتمات غريبة... تستطيع أن تكشف عن سر من أسرار طوق الرماد الداجي بين العَتْمة  والضوء ؛ أسرار الأجنة .
  وضعت أمي طاما على حبل غسيل جدولا ، ذا تربيعات متداخلة ، فبدأت تنط من فوقه بقلم الأبنوس المخضل بالحناء ، الذي يجلب السَّعد ؛ إلى أن توقفت قطيرات الحناء على تربيعة قصية ...
فتقرؤها...
قارئة التربيعات !
  رفعت بقعة الحناء في الضوء بين الارتواء و الإجتفاف. فظهر الجسد المرمري الممشوق،  يُدق فيه الانتفاخ رويدا... رويدا. وصاحت :
وجدتها ! وجدتها!